شبهة عدم دستورية تعديل بعض أحكام قانون العمل
بإنشاء لجان للفصل في المنازعات العمالية
المحامي/ يوسف أحمد الزمان
بالجلسة المنعقدة في التاسع عشر من شهر أكتوبر الماضي، وافق مجلس الوزراء
الموقر على مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون العمل رقم (14) لسنة 2004م،
ومما تضمنه التعديل إنشاء لجنة أو أكثر إبتدائية، ولجنة أو أكثر استئنافية،
تسمى لجنة فض المنازعات العمالية، تشكل كل لجنة برئاسة قاضٍ يختاره المجلس
الأعلى للقضاء، وعضوية أثنين من ذوي الخبرة يرشحهما الوزير المختص.
وتختص اللجنة الابتدائية بالفصل على وجه الاستعجال في المنازعات الناشئة عن
قانون العمل وعقد العمل التي تحيلها إليها الجهة الإدارية المختصة، بينما تختص
اللجنة الاستئنافية بنظر الطعون التي يقدمها إليها ذوي الشأن في القرارات
النهائية الصادرة من اللجان الابتدائية، ويبدأ الطعن خلال خمسة عشر يوماً من
تاريخ صدور القرار إذا كان حضورياً، أو من تاريخ الإعلان إذا كان غيابياً، على
أن يكون القرار الصادر من اللجنة الاستئنافية نهائياً مشمولاً بالنفاذ المعجل،
غير جائز وقف تنفيذه إلا من هذه اللجنة.
ومع التقدير الكامل للدواعي التشريعية والاعتبارات العملية التي حدت بمجلس
الوزراء الموقر للموافقة على هذا التعديل المقترح، إلا أنه يدعو إلى التأمل في
مدى إتساقه مع المبادئ المنصوص عليها دستورياً، وصوابه مع الأحكام المستقرة
قانوناً، تحسباً من أن يقع التعديل في حومة قيام الشبهة من الناحية الدستورية،
أو في حظيرة المخالفة من الناحية القانونية.
ذلك أن استقلال السلطة القضائية، واستقلال القضاة كفلتهما المادتان (130)
و(131) من الدستور، بأن السلطة القضائية مستقلة تتولاها المحاكم على إختلاف
أنواعها ودرجاتها وتصدر أحكامها وفق القانون، وأن القضاة مستقلون لا سلطان
عليهم في قضائهم لغيره، ولا يجوز لأية جهة التدخل في القضايا أو في سير
العدالة.
وضمان حق التقاضي كفله الدستور في نص المادة (135) باعتباره من الحقوق الأساسية
للإنسان، وهو حق دستوري أصيل لا يجوز لأي سلطة من السلطات تجاوزها أو مصادرته
أو منع أي فرد من اللجوء إلى القضاء للدفاع عن حقوقه والذود عن حرماته.
والسلطة القضائية سلطة مستقلة من سلطات الدولة طبقاً لمبدأ الفصل بين السلطات،
مما لا يجوز معه للسلطة التنفيذية أن تتدخل في الشئون الخاصة بالسلطة القضائية
ولا تملك القيام بنزع اختصاص من الاختصاصات المخولة لها، أو تقوم بمنع المحاكم
من النظر في قضايا محددة أو منع سماع الدعاوى بشأن منازعات معينة.
كذلك لا تملك السلطة التشريعية الحق في إصدار تشريعات تمنع بها القضاء من النظر
في قضايا بذاتها، أو تخرج منازعات بعينها من اختصاصه، وتوكل أمر البت فيها إلى
جهات غير قضائية، أو تسلبه الحق في التصدي لمنازعات بعينها، لأن ذلك المنع،
وهذا السلب، يعتبران اعتداءاً صارخاً على حقوق السلطة القضائية بوصفها إحدى
السلطات الثلاث الرئيسية في الدولة من جهة، ومن جهة أخرى فإن ذلك يمثل انتهاكاً
لحق التقاضي المكفول دستورياً لجميع المواطنين.
ويعتبر كل ذلك تعطيلاً لوظيفة السلطة القضائية إذ هي السلطة المخولة من قبل
الدستور للفصل في جميع المنازعات. والتشريع الذي يصادر أو يقيد حق التقاضي
يعتبر مجافياً للدستور مخالفاً لمبدأ الشرعية الذي يعتبر عنصراً أساسياً من
عناصر الدولة القانونية، كما يهدد مبدأ المساواة بين المواطنين المقرر
بالمادتين (34) و (35).
ولذا فإن استقلال السلطة القضائية مؤداه أنه لا يجوز أن يحاكم الشخص إلا أمام
قاضيه الطبيعي الذي يعينه القانون سلفا، ولا تسلب من المحاكم العادية ولايتها،
ولا تنشأ جهات قضائية إستثنائية، وأن تحترم أحكام المحاكم فلا يجوز تعديلها أو
وقف تنفيذها إلا طبقاً للإجراءات التي رسمها القانون.
وحاصل ما تقدم أن استقلال القضاء هو مبدأ هام في شرف القضاء واعتباره وبدونه
يفقد القضاء قيمته وجدواه في حماية الحقوق والحريات وهو مبدأ دستوري يستهدف
بالدرجة الأولى تحصين القضاء ورجاله من آثار الترغيب أو الترهيب ليأمن الجميع
على حرياتهم وحرماتهم وأرواحهم وأموالهم.
ومن ثم فإن التعديل المقترح في مشروع القانون على السياق المتقدم يثير شبهة عدم
دستوريته لمجافاته للمبادئ آنفة البيان المنصوص عليها في الدستور القطري وذلك
من الوجوه الأتية:
أولاً: لا يكفي لإسباغ الصفة القضائية على أعمال أي جهة يعهد إليها المشرع
بالفصل في نزاع هو أصلاً من إختصاص المحاكم بأن يترأسها أحد القضاة كمبرر لسلب
وإبعاد النزاع من ولاية القضاء ذلك أن القرارات والأحكام القضائية التي تفصل في
حقوق الأفراد لا تصدر إلا من المحاكم ومن هيئة قضائية تتوافر في أعضائها ضمانات
الكفاءة والحيدة والاستقلال مع مراعاة الضمانات القضائية التي تقوم في جوهرها
على إتاحة الفرص المتكافئة لتحقيق دفاع أطراف الخصومة وتمحيص إدعاءاتهم ليكون
القرار أو الحكم الصادر في هذا النزاع مؤكداً للحقيقة القانونية مبلوراً
لمضمونها في مجال الحقوق المدعى بها أو المتنازع عليها.
وبالتالي فإن جميع ما سوف يصدر عن لجنة فض المنازعات العمالية هي قرارات إدارية
ولا ينال من ذلك وجود أحد السادة القضاة على رأس تشكيلها، ذلك أن وجوده مع
العضوين الآخرين المختارين من قبل وزير التنمية الإدارية والعمل سوف تكون
للعضوين الأغلبية في صدور أي قرار، بما تكون معه الأغلبية في هذه الحالة للعنصر
الإداري، ومن ثم فلا يمكن أن يوصف القرار الصادر من هذه اللجنة بأنه حكم أو
قرار قضائي.
فيكون من غير الجائز أو المستساغ دستورياً وقانونياً وعدالة إنشاء لجان لفض
المنازعات العمالية على النحو المقترح، وحرمان الأفراد من طوائف العمال وأرباب
الأعمال من اللجوء إلى قاضيهم الطبيعي لعرض منازعاتهم عليه بوسائل التقاضي
المحاطة بضمانات المحاكمات العادلة المنصفة والتي يتمكن الخصم في إطارها من
إيضاح دعواه، وعرض آرائه والرد على ما يعرضها من أقوال غرمائه أو حججهم على ضوء
فرص يتكافئون فيها جميعاً أمام محكمة مستقلة ومحايدة ينشئها القانون ويكون
تشكيلها وقاعد تنظيمها، وطبيعة الإجراءات المعمول بها أمامها وكيفية تطبيقها
عملاً محدداً للعدالة يلتئم مع المقاييس المعاصرة للدول المتحضرة.
ثانياً: أن اللجنة المقترح إنشاؤها، وعهد إليها بولاية الفصل في المنازعات
العمالية يغلب على تشكيلها العنصر الإداري إذ الثابت أنها برئاسة قاضٍ واحد
وعضوين أثنين من موظفي وزارة التنمية الإدارية والعمل والشؤون الاجتماعية من
ذوي الخبرة في مجال المحاسبة، بما مؤداه أنهما لا يتوافر لديهما التأهيل
القانوني الذي يمكنهما من الإلمام بإجراءات المحاكمة المنصفة العادلة وتحقيق
دفاع الخصوم وتقدير ما يقدمونه من أدلة، كما وانهما يفتقدان لضمانتي الحيدة
والاستقلال اللازم توافرهما في القاضي لأنهما موظفين لدى الوزارة.
ثالثاً: المقرر طبقاً لنص المادة (1) من القانون رقم (12) لسنة 2005 بشأن حالات
واجراءات الطعن بالتمييز في غير المواد الجنائية أنه: «للخصوم أن يطعنوا أمام
محكمة التمييز في الأحكام الصادرة من محكمة الاستئناف …».
ووفقاً لما انتهينا إليه سلفاً من أن ما تصدره لجنة فض المنازعات العمالية
الاستئنافية هي قرارات إدارية بما تكون معه هذه القرارات غير قابلة للطعن عليها
قضائياً أمام محكمة التمييز، لأن الأخيرة لا تختص إلا في الطعون على الأحكام
الصادرة من محكمة الاستئناف، وبذلك يكون التعديل المقترح قد حرم الخصوم من
الإستفادة من مرحلة هامة في التقاضي آلا وهي مرحلة التمييز والتي تعتبر مرحلة
جوهرية تراقب من خلالها محكمة التمييز مدى إلتزام قاضي الموضوع بالتطبيق الصحيح
للقانون على واقعة النزاع وعدم مخالفته أو الخطأ في تطبيقه أو في تأويله ومما
لا ريب فيه أن استبعاد منازعات العمل عن خضوعها للطعن بالتمييز سوف يجعل نصوص
قانون العمل بمنأى عن تأصيل وتقرير المبادئ القانونية الصحيحة التي يلزم الأخذ
بها مع ما يترتب على ذلك من توحيد فهم نصوصه ضماناً لتحقيق مبدأ المساواة أمام
القانون الذي نص عليه الدستور الذي يفترض وحدة التطبيق والتفسير القانوني عن
طريق محكمة قضائية واحدة تلزم أحكامها كافة المحاكم التي تدنوها ونتجنب بذلك
حدوث تعارض في الأحكام لأن وحدة تفسير النصوص القانونية تفسيراً واحداً هو أمر
ضروري لمعرفة روح القانون واستقرار العلاقات القانونية وبث الطمأنينة بين
المتقاضين، ومع نهاية مطاف منازعات العمل والعمال لدى لجنة فض المنازعات
العمالية الاستئنافية فإنه يمتنع معه قبول الطعن فيها بالتمييز بما يكون الباب
قد أُغلق أمام توحيد مبادئ وأحكام قانون العمل رغم أن دولة قطر من الدول
الرائدة في القضاء العمالي إذ صدر فيها أول قانون للعمل والعمال في عام 1962م،
وتعتبر دولة قطر أول دولة عربية – بعد مصر – تنشئ قضاءً عمالياً متخصصاً.
وبالتالي فلا يسوغ أن يتضمن التعديل المقترح إلغاء القضاء العمالي بعد قيامه
لأكثر من خمسين عاماً بالفصل في المنازعات العمالية وينشأ لمنازعات العمل
والعمال لجان إدارية تابعة لوزارة التنمية الإدارية والعمل. هذه المنازعات التي
تكتسب أهمية بالغة في عصرنا الحالي، بما تحتاج معه إلى قضاء متخصص يمتلك الخبرة
والكفاءة والحيدة.
ذلك أنه إذا كان للقانون بصفة عامة أهمية قصوى في حياة أفراد المجتمع، لكونه
منظماً لنشاطهم ومهيمناً على جل نواحيه، فإن لقانون العمل أثر كبير في الحياة
الاجتماعية إذ ينظم حياة العمال وأصحاب الأعمال في الدولة وهاتان الطائفتان
تشكلان الأكثرية في أي مجتمع، وقد أصبحت أهمية قانون وقضاء العمل أشمل وأوسع إذ
أن الخاضعين لهذا القانون في إزدياد بما تنشأ معه الكثير من المنازعات
والاختلافات وهو ما يتطلب وجود قضاء عمالي عصري متطور يلبي الفصل في تلك
المنازعات في الوقت المناسب ويسهر على تطبيق قانون العمل على الدعاوى المعروضة
عبر درجات التقاضي المقررة في النظام القضائي للدولة.
وإذا كانت هناك ثمة اعتبارات عملية حدت للموافقة على التعديل المقترح بإنشاء
تلك اللجان، إبتغاء سرعة الفصل في المنازعات العمالية، رغم أن المشروع خلا من
مواعيد حتمية تراعى، بل جملتها مواعيد تنظيمية لم يرتب البطلان على مخالفتها،
عدا ميعاد الطعن في القرار استئنافياً، فإنه من الميسور تحقيق هذه الاعتبارات
بتسريع الفصل في تلك المنازعات أمام قاضيها الطبيعي من خلال إعداد وتأهيل عدد
من القضاة يتخصصون في مجالها، و إفرادهم وحدهم بالجلوس للفصل فيها مع تقصير
آجال وإجراءات مراحل نظرها أمام درجات المحاكم المختلفة في مواعيد حتمية تلزم
عدم الخروج عليها، ذلك كله من شأنه أن يحقق هذه الاعتبارات دونما حاجة إلى
العصف بنظام قضائي عمالي مستقر ناهز الخمسين عاما في دولة قطر